كم عانت ومازالت تعاني المجتمعات الغربية بوضع قوانين لتنظيم النسل, وحماية الزوجة و الأبناء ووضع صور للعائلة المثالية, وكم فشل مفكروهم وعلماؤهم في إيجاد الحلول المناسبة للأمراض النفسية, وكم فشل قضاتهم في قوانينهم المبتكرة واجتهادهم المنحل, وكم كبرت استقلاليتهم في التعبير و التعريف بالحرية, وكم خاب ظنهم و ساءت تقديراتهم للنتائج والتماس المجتمع للاجتهاد الإنساني -غير المدرك-.
فما آل إليه المجتمع الغربي في أيامنا من اللعب بالجينات, و الحرية المطلقة المعطاة لأطبائهم, وحريتهم في الاعتقاد والنقد غير المحمود, وحرية إبداء الرأي, وثقافة "لم لا؟"...فما هذا وذاك إلاَ سياسة و قوانين إنسانية لغت و تناست و ابتعدت عن التشريع السماوي الربَاني الذي ما شك في اختلال توازنه أحد منهم إلاَ اتضح له مدى عمق و معنى و حق التشريع, وما زادتنا شكوكهم و نتائجهم إلاَ ارتباطا بديننا, فسبحان من نزل كتابه بالحق وبعث نبيَه معلما و مرشدا لمفاهيم الدنيوية و الأخروية لأمته.
وهذا هدي نبيَنا عليه الصلاة و السلام حياته تعلمنا والأيام تأكَد لنا أن ديننا ينشىء الفرد النشأة الفطرية السليمة فيولد يتربى ويكبر في حدود ما شرعه الله سبحانه, وهذا شرعنا يهتم بالأسرة و البيت المسلم, فأسَسه على التقوى و مراعاة العشير ليعطي ثماره في المجتمع فالبيت الناجح السَعيد هو المدرسة التربوية للطفل, و هو مكان العبادة والتَعبد, فهو منبع الفرح و النجاح أو التَرف و الفساد. ونجد لهذا دستورا شرعيَا قائما وأجوبة على أسئلتنا التي تعلمنا المهارات الكافية لنجاح الأسرة و الفرد معا.
فاهتمام الإسلام بالفرد والأسرة إذا دلَ على شيء فإنه يدل على أهمية واعتناء الدين بالجانب الاجتماعي و مادام الفرد جزءا من الأسرة فالأسرة نفسها جزأ لا يتجزأ من المجتمع. فالمجتمع هو عبارة عن مجموعة خلايا حيوية متفاعلة متداخلة فيما بينها يتأثر بما تتأثَر به الأسرة, فبسلامة الفكر الفردي يترقى المجتمع, و بتعلم الإنسان تتحضر الأمة, و بتقيده لشرع الإسلامي يبدع ويكسب رضا ربه.
علمنا نبيَنا عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم كيفية العيش في المجتمع طالبين الآخرة, فعلَمنا الزهد و الاستقامة, و عرَفنا بواجباتنا فأمرنا بطاعة الله والوالدين وعرفنا حقوق غيرنا علينا, و شرح لنا حتى كيفية الأكل لتأديب الإنسان المسلم فقال عليه الصلاة و السلام : "سَم الله و كل بيمينك و كل مِما يليك" , بل ولم يقف لهذا الحد بل ودقَق في الاعتدال في الأكل والمشرب والطريقة الصحية المثلى فقال صلى الله عليه و سلم : "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه, بحسب بني آدم لقيمات يقمن صلبه, فإن كان لابد فاعلا, فثلث لطعامه و ثلث لشرابه و ثلث لنفسه".
فما بقي لابن آدم من سؤال في دينه أو دنياه إلا بينه نبينا عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم فأرشدنا وعلمنا مع شرح دقيق مدقق فنعم الشفيع والمعلم.
و كان من وظائف معلمنا التنبيه و التحذير, والأمر والتحريم, فكما علمنا أبسط الوظائف وضع لنا حدودا و جاءنا مكملا لما أنزله الله في القرآن الكريم. فبعدما عرفنا على حدود الله, بين لنا حدود الفرد مع أخيه, فقال عليه الصلاة و السلام معرفا للحرية الشخصية أفضل تعريف :"إن قوما ركبوا في السفينة, فاقتسموا, فصار لكل رجل منهم موضع, فنقر رجل منهم موضعه بفأس, فقالوا له : ما تصنع؟ قال : هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن أخذوا يده نجا و نجوا, وإن تركوه هلك وهلكوا".
فحرية المرء مقيدة بأخيه وجاره ومجتمعه, حريتنا مزخرفة بحدود قيمنا ومبنية على احترام الغير واهتمام بحالة الآخر وتأثره بحريتنا, فلا نلغي اعتقادنا و نهتك عرضنا و نحطم قيمنا بحجة الحريات الشخصية والتحضر, فما الحرية بالتعريف الغربي إلا اضمحلال للآداب واختلال التوازن الاجتماعي, ففتح باب الحرية غير المقيد ينتج مجتمعا منعدم الأخلاق و القيم و هو ما يميزنا على المجتمع الحيواني. فسعادة الإنسان السليم تكمن في الحدود المشروعة, عكس ما يراه الغرب من أن السعادة هي الحرية المطلقة.
المجتمع هو البيئة المحيطة بالإنسان, فهو المحل الذي يستند فيه المسلم على أخيه المسلم, فإذا كانت القاعدة المستندة عليها هشة, انعدم الأمان وتصدرت الفتن أفكار كل عضو من المجتمع, فالخوف على العائلة و الممتلكات ما هو إلا خوف نبع ونضج من الخوف من الآخر, والخوف من عدم احترام الآخر لحدوده. فإذا عرف الفرد حدوده والتزم بها انتشر الأمان وعاش الكل بسلام.
وقال بهذا الشأن الرسول صلى الله عليه و سلم معرفا للمسلم :"المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده" مسند أحمد.
ففي الحديث أن سلامة المسلمين هو إسلام الفرد, و إن النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع في تبيان حرمة دماء بعضهم بعضا, وعرضهم وأموالهم أضاف بقوله :"سأخبركم من المسلم:من سلم المسلمون من لسانه و يده, و المؤمن: من أمنه الناس على أموالهم و أنفسهم" خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث فضالة بن عبيد.
فكم نحن بحاجة للتعرف على ديننا وشرعيته وإسلامنا وبعده وعبقرية نبينا وفلسفته المحمودة.
ففطرة الإنسان على العيش في المجتمع تجبره على التعرف على الحدود الموضوعة وتفرض عليه الالتزام و تمسك بواجباته. فالمجتمع عند المسلمين ما هو إلا بيت كبرت مساحته, ووجب على الفرد حمايته, وفرض عليه دعوة المنتمين إليه بالأمر بالمعرف و النهي عن المنكر.
ما صح أوله صح آخره, و ما تقدس منبعه اكتملت صفاته, منبعنا دين ودستور من خالق لمخلوقاته, ولن تكتمل صفات المخلوقات إلا بالتزام الفرد بتعاليم الدين الرباني.
ضعف الأمة الإسلامية في عصرنا ما هو إلا نتيجة ابتعاد الفرد عن دينه, وانشغاله بالدنيا وتقربه للسياسات الخارجية الشاذة و التي تتركز على الجانب المنطقي و البحوث الإنسانية لتطور حياة الشخص والمجتمع. فالسياسات الخارجية هي كمن أبصر من غير بصيرة, حاد الفكر أسود القلب و الفؤاد, يرى يومه غير مكترث للنتائج المستقبلية.
حان الوقت لاستيقاظ الأمة المسلمة و كسر قيود العالم الغربي المتربعة على أفكارنا, و دراسة مستجدة لاستقلاليتنا عن مجتمعهم حتى إعلاميا. علاقة المجتمعين الشرقي و الغربي ما زادتنا إلا انحطاطا و خطرا على فكر أبنائنا, و بعدا عن ديننا متناسين جود عاداتنا وقيمنا كمجتمع محافظ مسلم.
فحان الوقت إلى الرجوع إلى أصلنا, واحتكاكنا مع مراجعنا, وتقييم علمائنا وصناع تاريخنا, ومقارنتهم بعلمائهم أصحاب الاتجاه الواحد.
الأصل في الحضارة هو التمسك الفرد بالشخصية الإسلامية, فما تقوم حضارة إذا ضاعت الهمة و أصبحنا شراعا بين رياح الاتجاهات.
يقول الله تعالى في محكم تنزيله :"...إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الرعد11.
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية :" أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب...فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير..."
فما أحوجنا إلى الرجوع لفطرتنا والتقيد بشريعتنا, والالتزام بما نزل على سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام, فلنتعرف على السعادة في الدارين ولنجعلها مرادنا, ولنحمي فكرنا وانفتاح عقول أطفالنا, ونحرص على تربيتهم تربية سليمة كما أملاها علينا نبي الأمة ومرشدها عليه الصلاة والسلام. فالحرص الحرص على تصفية ما يأتينا من الغرب, ومن إعلام ما احترم قيمنا ولا عقولنا, استصغر شيبنا, ووقح شبابنا, ودخل بيوتنا, وغسل عقول مجتمعاتنا.
إن حال الأمة المستقبلية في أيدينا اليوم, شقاؤها التفكير أننا ضحايا مع الاقتناع باستحالة التغيير, ونجاحها تحريم ما حرم الله ومراجعة آفاقنا وهدفنا من الحياة. فنجاح الأمة يقف عليك أخي القارئ وعليك أختي, ولنذكر أن نجاح المجتمع من نجاحك أنت.
بقلم : محمد أمين زميرلين